.ج3. أهوال القبور للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله
استكمال
412- وفي كتاب الحكايات لأبي عمرو أحمد بن محمد النيسابوري حدثنا بكر بن محمد بن عيسى الطرطوسي حدثنا حامد بن يحيى بن سليم قال كان عندنا رجل بمكة من أهل خرسان يودع الودائع فيؤدبها فأودعه رجل عشرة ألاف دينار وغاب وحضر الخرساني الوفاة فما ائتمن أحداً من أولاده فدفنها في بعض بيوته ومات فقدم الرجل وسأل بنيه ، فقالوا ما لنا بها علم فاسأل العلماء الذين بمكة وهم يومئذ متوافرون فقالوا ما نراه إلا من اهل الجنة وقد بلغنا أن أرواح اهل الجنة في زمزم فإذا مضى من الليل ثلثه أو نصفه فائت زمزم فقف على شفيرها ثم ناده فإنا نرجوا أن يجيبك فإن أجابك فاسأله عن مالك فذهب كما قالوا فنادى أول ليلة وثانية وثالثة فلم يجب فرجع إليهم فقال : ناديت ثلاثاً فلم أجب فقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، ما نرى من صاحبك إلا من أهل النار فاخرج إلى اليمن فإن بها وادياً يقال له بلهوت ، فيه أرواح أهل النار ، فقف على شفيرها فناده في الوقت الذي ناديت في زمزم ، فذهب كما قيل له في الليل فنادى يا فلانا بن فلان فأجابه من أول صوت فقال له ويحك ما انزلك هاهنا وقد كنت صاحب خير قال كان لي أهل بخرسان فقطعتهم حتى مت فأخذني الله فأنزلني هذا المنزل وأما مالك فإني لم آمن عليه ولدي وقد دفنته في موضع كذا فرجع صاحب المال إلى مكة فوجد المال في المكان الذي أخبره .
ورجحت طائفة من العلماء أن أرواح الكفار في بئر برهوت منهم القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتابه المعتمد وهو مخالف لنص أحمد أن أرواح الكفار في النار ولعل لبئر برهوت اتصالاً في جهنم في قعرها كما روي في البحر أن تحته جهنم والله أعلم . ويشهد لذلك ما سبق من قول أبي موسى الأشعري : روح الكافر بوادي حضرموت في أسفل الثرى من سبع أرضين . وقال صفوان بن عمرو : سألت عامر بن عبد الله اليماني هل لأنفس المؤمنين مجمع ؟ فقال : يقال : إن الأرض التي يقول الله : { إن الأرض يرثها عبادي الصالحون } قال : هي الأرض التي تجتمع أرواح المؤمنين فيها . حتى يكون البعث خرجه ابن منده ، وهذا غريب جداً وتفسير الآية بذلك ضعيف .
413- وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب " من عاش بعد الموت " من طريق عبد الملك بن قدامة عن عبد الله بن دينار عن أبي أيوب اليماني عن رجل من قومه يقال له عبد الله إنه ونفراًمن قومه ركبوا البحر وإن البحر أظلم عليهم أياماً ثم انجلت عنهم الظلمة وهم قرب قرية قال عبد الله : فخرجت ألتمس الماء فإذا أبواب المدينة مغلقة تجأجأ فيها الريح فهتفت بها فلم يجبني أحد فبينا أنا كذلك إذ طلع علي فارسان تحت كل واحد منهما قطيفة بيضاء فسألاني عن أمري فأخبرتهما بالذي أصابنا في البحر وإني خرجت أطلب الماء فقالا لي : يا عبد الله اسلك في هذه السكة فإنك ستنتهي إلى بركة فيها ماء فاسق منها فلا يهولنك ما ترى فيها قال : فسألتهما عن تلك البيوت المغلقة التي تجأجأ فيها الريح فقالا : هذه بيوت فيها أرواح الموتى قال فخرجت حتى انتهيت إلى البركة فإذا فيه رجل معلق مصلوب على رأسه يريد أن يتناول الماء بيده وهو لا يناله ، فلما رآني هتف بي وقال : يا عبد الله اسقني قال : فغرفت بالقدح لأناوله فقبض بيدي فقال : بلَّّ العمامة ثم ارم بها إليَّّّّّ فبللت العمامة لأرمي بها إليه فقبض بيدي ، فقلت : يا عبد الله غرفت بالقدح لأناولك فقبضت يدي ثم بللت العمامة لأرمي بها إليك فقبضت يدي ، فأخبرني من أنت ؟ فقال : أنا ابن آدم أنا أول من سفك دماً في الأرض .
414- وروى أبو نعيم بإسناده عن ابن وهب حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : بينما رجل في مركب في البحر إذا انكسر بهم مركبهم فتعلق بخشبة فطرحته في جزيرة فخرج يمشي فإذا هو بماء فتبعه فدخل في شعب فإذا برجل في رجليه سلسلة منوط فيها بينه وبين الماء شبر فقال : اسقني رحمك الله قال : فأخذت ملء كفي ماء فرفع بالسلسلة فذهب بالماء فلما ذهب الماء حط الرجل قال : ففعلت ذلك ثلاث مرات أو أربعاً . قال : فلما رأيت ذلك منه قلت له : مالك ويحك ؟ قال : هو ابن آدم الذي قتل أخاه ، والله ما قتلت نفس ظلماً منذ قتلت أخي إلا يعذبني الله بها لأني أول من سن القتل .
415- وروى عاصم بن محمد الرازي في كتاب " الرهبان " . حدثنا عصمة العباداني قال : كنت أجول في بعض الفلوات إذ نظرت ديراً وفيه صومعة وفيها راهب فناديته فأشرف علي . فقلت له : من أين تأتيك الميرة ؟ قال : من ميسرة شهر قلت : حدثني بأعجب ما رأيت في هذه المواضع . قال : بينا أنا ذات يوم أدير بصري في هذه البرية القفر و أتفكر في عظمة الله وقدرته إذ رأيت طائراً أبيض مثل النعامة كبيراً قد وقع على تلك الصخرة وأومى بيده إلى صخرة بيضاء فتقيأ رأساً ثم رجلاً ثم ساقاً وإذا هو كلما تقيأ عضواً التمت بعضها إلى بعض أسرع من البرق فإذا هم بالنهوض نقره الطائر فقطع أعضاءه ثم يرجع فيبتلعه فلم يزل على ذلك أياماً فكثر تعجبي منه وازددت يقيناً بعظمة الله وعلمت أن لهذه الأجساد حياتاً بعد الموت ، وذكر أنه سأل عن ذلك الرجل يوماً عن أمره فقال : أنا عبد الله بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب أمر الله هذا الملك أن يعذبني إلى يوم القيامة . قال : قال لي الملك : قد أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أخرج بهذا الجسد إلى جزيرة من البحر الأسود التي تخرج منها هوام أهل النار فأعذبه إلى يوم القيامة .
وقد رويت هذه الحكاية من وجه آخر خرجها ابن النجاري في تاريخه من طريق السلفي بإسناد له إلى الحسن بن محمد بن عبيد اليشكري حدثنا إسماعيل بن أحمد بن علي بن أحمد بن يحيى بن النجم سنة عشر وثلاثمئة أنه حضر مع يوسف بن أبي التياح ببلاد سنباط حين فتحها وأن سنباط حضر مجلسه . وحدثنا عن راهب سماه فأحضر يوسف الراهب فحدثه الراهب بعد الامتناع أن ملكاً نفاه إلى جزيرة على البحر منفردة قال : فرأيت يوماً طائراً . فذكر شبيهاً بالحكاية .
416- ورويت من وجه آخر من طريق أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي صاحب السداميات المشهورة عن علي بن هارون عن محمود الوراق حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر البزار سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن أبي الأصبغ قال : قدم علينا شيخ غريب فذكر أنه كان نصرانياً سنين وأنه تعبد في صومعة قال : فبينا هو ذات يوم جالساً إذ جاءه طائر كالنسر أو كالكركي . فذكر شبيهاً بالحكاية مختصراً . وكل ما ورد من هذه الآثار فإنه محمول على أن الأرواح تنتقل من مكان إلى مكان ، ولا يدل على أنها تستقر في موضع من الأرض والله أعلم .
417- ويشهد لهذا ما روي عن شهر بن حوشب قال : كتب عبد الله بن عمرو إلى أبي بن كعب يسأله أين تلتقي أرواح أهل الجنة وأهل النار : فقال : أما أرواح أهل الجنة فبالبادية ، وأما أرواح الكفارفبحضرموت . ذكره ابن منده تعليقاً .
وقالت طائفة من الصحابة : الأرواح عند الله عز وجل . وقد صح ذلك عن عمرو وقد سبق قوله وكذلك .
418- روي عن حذيفة خرجه ابن منده من طريق داود عن الأودي عن الشعبي عن حذيفة قال : إن الأرواح موقوفة عند الرحمن عز وجل تنتظر موعدها حتى ينفخ فيها . وهذا إسناد ضعيف . وهذا لا ينافي ما وردت به الأخبار من محل الأرواح على ما سبق .
419- وقالت طائفة : أرواح بني آدم عند أبيهم آدم عن يمينه وشماله وهذا يستدل له بما في الصحيحين عن أنس عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فرج سقف بيتي وأنا بمكة " فذكر الحديث وفيه " فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعلى يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال : مرحباً بالنبي الصالح [ والابن الصالح ] . قلت لجبريل : من هذا ؟ قال : هذا آدم ، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة . والأسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى ...." وذكر بقية الحديث . وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن أرواح الكفار في السماء وهذا مخالف لقوله تعالى { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء } وكذلك حديث البراء وأبي هريرة وغيرهما أن السماء لا تفتح لروح الكافر ، وأنها تطرح طرحاً ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } .
وكذا حمله بعضهم على أن هذه الأرواح التي عن يمين آدم وشماله هي أرواح بنيه التي لم تخلق أجسادهم بعد ، وهذا في غاية البعد مع منازعة بعضهم في خلق الأرواح قبل أجسادها .
420- وقد ورد من حديث أبى هريرة ما يزيل هذا الأشكال كله من رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع عن أنس عن أبي العالية وغيره عن أبي هريرة فذكر حديث الإسراء بطوله إلى أن قال : " ثم صعد به على السماء الدنيا فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال جبريل ، قيل ومن معك ؟ قال : محمد قالوا : وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم . قال : حياه الله من أخ ومن خليفة . فنعم الاخ ، ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء قال : فدخل فإذا هو برجل تام الخلقة لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من الناس عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة إذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر وذا نظر عن شماله بكى وحزن والباب الذي عن يمينه باب الجنة فإذا نظر من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر والباب الذي عن شماله جهنم فإذا نظر من يدخل من ذريته جهنم بكى وحزن " وذكر الحديث ، وقد خرجه بتمامه البزار في مسنده وأبو بكر الخلال وغير واحد وفيه التصريح بان أرواح ذريته في الجنة والنار وإنه ينظر إلى أهل الجنة من باب عن يمينه وإلى أهل النار من باب عن شماله وهذا لا يقتضي أن تكون الجنة والنار في السماء الدنيا وإنما معناه أن آدم في السماء الدنيا يفتح له بابان في الجنة والنار ينظر منهما إلى أرواح ولده فيهما . وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في صلاة الكسرف وهو في الأرض وليست الجنة في الأرض ، وروى أنه رآهما ليلة الإسراء في السماء وليست النار في السماء .
421- ويشهد لذلك أيضاً ما في حديث أبي هارون العبدي مع ضعفه عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء الطويل إلى أن ذكر السماء الدنيا " وإذا أنا برجل كهيئته يوم خلقه الله عز وجل لم يتغير منه شيء وإذا تعرض عليه أرواح ذريته فإذا كان روح مؤمن قال روح طيبة وريح طيبة اجعلوا كتابه في سجين ، قلت : يا جبريل من هذا ؟ قال أبوك آدم " وذكر الحديث ففي هذا أنه تعرض عليه أرواح ذريته في السماء الدنيا وأنه يأمر بجعل الأرواح في مستقرها من عليين وسجين فدل على أن الأرواح ليس محل مستقرها في السماء الدنيا . وزعم ابن حزم أن الله خلق الأرواح جملة قبل الأجساد وأنه جعلها في برزخ وذلك البرزخ عند منقطع العناصر يعني حيث لا ماء ولا هواء ولا نار وأنه إذا خلق الأجساد أدخل فيها تلك الأرواح ثم يعيدها عند قبضها إلى ذلك البرزخ وهو الذي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة أسري به عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم وأهل الشقاوة عن يساره وذلك عند منقطع العناصر وتجعل أرواح الأنبياء والشهداء في الجنة ، قال : وذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلناه بعينه قال : وعلى هذا أجمع أهل العلم . قال ابن حزم : وهو قول جميع أهل الإسلام غيره . فكيف يكون قول جميع أهل الإسلام وكلامه يقتضي أن الأرواح رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء تحت السماء الدنيا ، والحديث يدل على أنه إنما رآها فوق السماء الدنيا . وما حكاه عن محمد بن نصر عن إسحاق بن راهويه فلا يدل على ما قاله بوجه ، فإن محمد ابن نصر حكى عن إسحاق بن راهويه إجماع أهل العلم أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه قبل خلق أجسادهم فاستنطقهم واستشهدهم على أنفسهم { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } ، ولم يذكر أكثر من هذا ، وهذا لا يدل شيء مما قاله ابن حزم في مستقر الأرواح ألبتة . بل ولا على أن الأرواح بقيت على حالها ، بل في بعض الأحاديث أنه ردها إلى صلب آدم ولم يقل إسحاق ولا غيره من المسلمين أن مستقر الأرواح حيث منقطع العناصر بل وليس هذا من جنس كلام المسلمين بل من جنس كلام المتفلسفة .
422- وقد خرج ابن جرير الطبري في كتاب " الأدب " له من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب عن المغيرة بن عبد الرحمن قال : قال سلمان لعبد الله بن سلام : إن مت قبلي فأخبرني عمن تلقى ، وإن مت قبلك أخبرتك بما ألقى فقال له الناس : يا عبد الله كيف تخبرنا وقد مت ؟ قال : ما من روح تقبض من جسد إلا كان بين السماء والأرض حتى يرده في جسده الذي أخذ منه . هذا لا يثبت وهو منقطع وأبو معشر ضعيف وقد سبق رواية سعيد بن المسيب لهذه القصة بغير هذا اللفظ وهو الصحيح . وقد تقدم في سؤال عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه عن الأرواح هل تموت بموت الأجساد ؟ وهذا يدل على إن هذا قد قيل أيضاً وهو كذلك . وقد حكي عن طائفة من المتكلمين وذهب إليه جماعة من فقهاء الأندلس قديماًمنهم عبد الأعلى بن وهب بن محمد بن عمر بن لبابة ومن متأخيرهم كالسهيلي وأبي بكر بن العربي وغيرهما قال أبو الوليد بن الفرضي في " تاريخ الأندلس " : أخبرني سليمان بن أيوب قال : سألت محمد بن عبد الملك بن أيمن عن الأرواح ؟ فقال لي : كان محمد بن عمر بن لبابة يذهب إلى أنها تموت وسألته عن ذلك . فقال: كذا يذهب عبد الأعلى بن وهب فيما قال ابن أيمن فقلت له : إن عبد الأعلى كان قد طالع كتب المعتزلة ، ونظر في كلام المتكلمين فقال : إنما قلدت عبد الأعلى ليس من هذا شىء انتهى . وقد استدل أرباب هذا القول بقوله تعالى { كل نفس ذائقة الموت } ، وهذا حق كما أخبر الله به لا مرية فيه لكن الشأن في فهم معناه فإن النفس يراد بها مجموع الروح والبدن كما في قوله تعالى: { ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها } وقوله سبحانه وتعالى { فلا تزكوا أنفسكم } وقوله تعالى { ولاتقتلوا أنفسكم } وقوله تعالى { كل نفس بما كسبت رهينة } وقوله تعالى {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها }.
423- وقول النبي صلى الله عليه وسلم0" ما من نفس منفوسة إلا الله خالقها " .
424- وقوله عليه السلام " 0مامن نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ " .
425- وفي رواية " لا يأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم " والمراد موت الأحياء الموجودين في يومه ذلك ، ومفارقة أرواحهم لأبدانهم قبل المائة سنة ليس المراد عدم أرواحهم واضمحلالها فكذلك قوله سبحانه وتعالى { كل نفس ذائقة الموت } إنما المراد كل مخلوق فيه حياة فإنه يذوق الموت وتفارق روحه بدنه ، فإن أراد أنها تعدم وتتلاشى فليس بحق وقد اشتد نكير العلماء لهذه المقالة حتى قال سحنون بن سعيد وغيره : هذا قول أهل البدع ، والنصوص الكثيرة الدالة على بقاء الأرواح بعد مفارقتها الأبدان ترد ذلك وتبطله ، ولكن تخيل بعض المتأخرين موت الأرواح عند النفخة الأولى مستدلاً بقوله تعالى { ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } ورد عليه آخرون وقالوا : إنما المراد به يموت من لم يكن مات قبل ذلك ، ولكن ورد عن طائفة من السلف في قوله { إلا من شاء الله } أن المستثنى هم الشهداء . روي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصور الطويل ، ومن وجه آخر بإسناد أجود من إسناد حديث الصور ، وهذا يدل على أن للشهداء حياة يشاركون فيها الأحياء ، وقد قيل في الأنبياء مثل ذلك أيضاً .
426- وعلى هذا حمل طائفة من العلماء منهم البهيقي وأبو العباس القرطبي قول النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى } فأكون أنا أول من يبعث فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أجوزي بصعقة الصور أم بعث قبلي وفي رواية " أو كان ممن استثنى الله " ولأن حياة الأنبياء أكمل من حياة الشهداء بلا ريب فشملهم حكم الأحياء أيضاً ويصعقون مع الأحياء حينئذ لكن صعقة غشي لا صعقة موت إلا موسى تردد فيه أصعق أم كان ممن استثنى الله فلم يصعق مجازاة له بصعقة الطور لكن على هذا التقدير فموسى مبعوث قبل محمد صلى الله عليه وسلم لا محالة ، فكيف يتردد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله .
والفرق بين حياة الشهداء وغيرهم من المؤمنين الذين أرواحهم في الجنة من وجهين : أحدهما أن أرواح الشهداء يخلق لها أجساد أو هي الطير التي تكون في حواصلها ليكمل بذلك نعيمها ويكون أكمل من نعيم الأرواح المجردة عن الأجساد ، فإن الشهداء بذلوا أجسادهم للقتل في سبيل الله فعوضوا عنها بهذه الأجساد في البرزخ ، والثاني أنهم يرزقون من الجنة وغيرهم لم يثبت له في حقه مثل ذلك ، فإنه جاء أنهم يعلقون في شجر الجنة ، وروي يعلقون بفتح اللام وضمها فقيل : إنهما بمعنى وأن المراد الأكل من الشجر . قال ابن عبد البر . وقيل : رواية الضم معناها الأكل ، ورواية الفتح معناها التعلق . ذكره ابن الجوزي ، وبكل حال فلا يلزم مساواتهم للشهداء في كمال تنعمهم في الأكل والله أعلم .
وقد ذهب طائفة من المتكلمين إلى أن الروح عرض لا تبقى بعد الموت وحملوا ما ورد من عذاب الأرواح ونعيمها بعد الموت على أحد أمرين : إما أن العرض الذي هو الحياة يعاد إلى جزء من البدن أو على أن يخلق في بدن آخر وهذا الثاني باطل قطعاً ، لأنه يلزم منه أن يعذب بدن غير بدن الميت مع روح غير روحه ، فلا يعذب حينئذ بدن الميت ولا روحه ولا ينعمان أيضاً وهذا باطل قطعاً والأول باطل أيضاً بالنصوص الدالة على بقاء الروح منفردة عن البدن بعد مفارقتها له وهي كثيرة جداً ، وقد سبق ذكر بعضها .
427- وقد احتج بعضهم على فناء الأرواح وموتها بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المقابر قال " السلام عليكم أيتها الأرواح الفانية والأبدان البالية والعظام النخرة , التي خرجت من الدنيا وهي بالله مؤمنة ، اللهم ادخل عليهم روحاًً منك وسلاماً منا " وهذا حديث خرجه ابن السني من حديث عبد الوهاب بن جابر التيمي حدثنا حبان بن علي عن الاعمش عن أبى عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يثبت رفعه وعبد الوهاب لا يعرف وحبان ضعيف , لوصح حمل على أنه أراد بفناء الأرواح ذهابها من الأجساد المشاهدة كما في قوله تعالى { كل من عليها فان } وبعض الأبدان باقية كأجساد الأنبياء وغيرهم وإنما تفارق أرواحها أجسادها ، وذكر عن ابن عباس أنه سئل أين تكون الأرواح إذا فارقت الأجساد ؟ فقال : أين يكون السراج إذا طفي والبصر إذا عمي ولحم المريض إذا مرض ؟ فقالوا : إلى أين ؟ قال : فكذا الأرواح . وهذا لا يصح عن ابن عباس والله أعلم .
البابُ العاشر
في ذكر ضيق القبور وظلمتها على أهلها وتنورها عليهم بدعاء الأحياء وما ورد من حاجة الموتى إلى دعاء الأحياء وانتظارهم لذلك
وقد تقدم في الباب الثاني أن القبر يقول : أنا بيت الظلمة وبيت الضيق إلا ما وسع الله .
429- قال ابن المبارك وحدثنا صفوان بن عمرو حدثني سليم بن عامر قال : خرجنا في جنازة على باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهلي فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها قال أبو أمامة : إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تغنمون فيه الحسنات والسيئات توشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحشة وبيت الظلمة وبيت الضيق إلا ما وسع الله ثم تنتقلون منه ِإلى يوم القيامة .
430- وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سلمة بن سعيد قال : كان هشام الدستوائي إذا ذكر الموت يقول : القبر ، وظلمة القبر ، ووحشة القبر ، فلما مر بعض إخوانه إلى جنبات قبره قال : يا أبا بكر والله صرت إلى المحذور . وروى بإسناده عن امرأة هشام الدستوائي قالت : كان هشام إذ طفىء المصباح غشيه من ذلك أمر عظيم فقلت له : إنه يغشاك أمر عظيم عدن المصباح إذا طفىء قال : إني أذكر ظلمة القبر ، ثم قال : لو كان سبقتني إلى هذا أحد من السلف لأوصيت إذا مت أن أجعل في ناحية من داري قال : فما مكثنا إلا يسيراً حتى مات قال : فمر بعض إخوانه به في قبره فقال : يا أبا بكر صرت إلى المحذور .
431- وقال الحسن بن البراء حدثني عبد الوهاب بن غياث حدثتني جمعة جارة لهشام الفردوسي قالت : كان هشام إذا رجع من جنازة لم يتعش تلك الليلة وكان لا ينام إلا في بيت سراج قال : فطفىء سراجه ذات ليلة فخرج هارباً فقيل له : ما شأنك قال : ذكرت ظلمة القبر .
432- وروينا حديث خالد بن خداش قال : كنت أقعد إلى أشيم البلخي عم قتيبة وكان أعمى وكان يحدث ويقول : أواه القبر وظلمته ، واللحد وضيقه ، وكيف أصنع ؟ ثم يخشى عليه ، ثم يعود فيحدث فيصنع مثل ذلك مرات حتى يقوم .
433- وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن وهيب بن الورد قال نظر ابن مطيع يوماً إلى داره فأعجبه حسنها فبكى ثم قال : والله لولا الموت لكنت بك مسروراً ولولا ما نصير ] إليه ] من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا ثم بكى بكاء شديداً حتى ارتفع صوته .
434- وبإسناده عن الفيض بن إسحاق قال : قال لي الفضيل بن عياض : أرأيت لو كانت لك الدنيا فقيل لك : تدعها ويوسع لك في قبرك ما كنت تفعل ؟ قال فقال : فضيل أليس تموت وتخرج من أهلك ومالك وتصير إلى القبر وضيقه وحدك ثم قال : { فما له من قوة ولا ناصر } ثم قال : إن كنت لا تعقل هذا فما في الأرض دابة أحمق منك . قال :
435- وأخبرنا محمد بن الحسين حدثني محمد بن حرب المكي قال : قدم علينا أبو عبد الرحمن العمري العابد فاجتمعنا إليه وأتاه وجوه أهل مكة قال : فرفع رأسه فنظر إلى القصور المحدقة بالكعبة فنادى بأعلى صوته : يا أصحاب القصور المشيدة اذكروا ظلمة القبر يا أهل النعيم والتلذذ اذكروا الدود والصديد وبلى الأجساد في التراب قال : ثم غلبته عيناه فنام .
436- وقال : في كتاب " العزلة " : حدثنا حسن بن عبد الرحمن عن رجل قال : دخلت على رجل بالمصيصة في بيته فيه فرشه وقماشة ، فقلت : أما يضيق صدرك من هذا فبكى وقال : إذا ذكرت القبر وظلمته اتسع هذا عندي ولهيت عن غيره .
437- وذكر بإسناد له أن سعيد بن عبد العزيز دخل على سليمان الخواص فقال : مالي أراك في الظلمة ؟ قال : ظلمة القبر أشد .
438- قال أبو الحسن بن البراء : حدثنا أبو حمزة الأنصاري حدثني أبو المضرجي قال : خرجت غازياً فمررت ببعض حصون الشام ليلاً فوجدت باب الحصن مغلقاً ومقبرة على الباب ، فبت بجنب المقبرة بالقرب من قبر محفور فلما نمت إذا بهاتف من القبر وهو يقول شعراً :
أنعم الله بالخيـالين عينا وبمسراك يا أميم إلينا
عجباً ما عجبت من ثقل التر ب ومن ظلمة القبور علينـا
قال : فانتبهت فإذا بالباب قد فتح وإذا بجنازة يقدمها شيخ فقلت له : ما هذه الجنازة ؟ قال : جنازة ابنتي قلت : ما اسمها ؟ قال أميمة . قلت : القبر محفور لمن ؟ قال قبر ابن أخي وكان زوجها فتوفي ، فدفنته ثم توفيت ابنتي فجئت أدفنها ، فأخبرته بما سمعت من الهاتف في القبر .
439- وخرج ابن أبى الدنيا من طريق مجالد عن الشعبي قال كان صفوان بن أمية في بعض المقابر فإذا شعل نيران قد أقبلت ومعها جنازة فلما دنوا من القبر قال : انظروا قبر كذا وكذا قال : وسمع رجل صوتاً من القبر حزيناً موجعاً يقول شعراً :
أنعم الله بالظعينة عينا وبمسراك يا منين إلينا
جزعاً ما جزعت من ظلمة القب ر ومن مسك التراب منينا
فأخبر القوم بما سمع فبكوا حتى خضبوا لحاهم ثم قالوا : هل تدري من منينة ؟ قال : لا . قالوا : صاحبة هذا السرير . وهذه أختها ماتت قبل عام أول .
440- وخرج ابن المنذر الهروي المعروف بيشكر في كتاب " العجائب " له من طريق أبي حمزة اليماني قال : جاء رجل إلى طلحة بن عبد الله بن عثمان بن معمر في الجاهلية فقال : إني رأيت عجباً مررت بقبور فنمت فسمعت قائلاً من القبر يقول شعراً :
أنعم الله بالظعينة عينا وبمسراك يا منين إلينا
نفساً ما نفست من ظلمة القب ر ومن مسك التراب منينا
فانتبهت فإذا أنا بأهل جنازة فقمت إليهم فأخبرتهم فقالوا : هذه منين وهذه أختها فدللتهم على القبر فدفنوها إلى جانبها ، وبإسناده عن إسماعيل بن راشد قال : حجت امرأة ، فماتت في بعض المنازل ، فلما كان من العام القابل حجت أخت لها فماتت في ذلك المكان فجهزوها وأخرجوها ليدفنوها فبينما هم يطلبون قبر أختها ورجل قد سرى ليله فأتى القبور فرمى بنفسه فنام فيها فاستيقظ فقال : ما تطلبون قالوا : قبراً قال : هو تحتي . قالوا : وما علمك ؟ قال سمعت قائلاً يقول :
يا منينا يا منينتي يا منينا أنعم الله بالظعينة عينا
نفسا مانفست من نفس القبـ ـر ومن مسك التراب منينا
لم نجد بعدكم منين رجاء أقبل الدهر بالغناء علينا
قال : فدفنت إلى جانبها .
441- وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن أمينة بنت عمران بن يزيد قالت : رأيت أبي في منامي فقلت : يا أبت لا عهد لي بك منذ فارقتنا . قال : يا بنية وكيف تعهدين من فارق الحياة إلى ضيق القبور وظلمتها ؟ قالت : فقلت : كيف حالك منذ فارقتنا قال : خير حال يا بنية بوّئنا المنازل ، ومهدت لنا المضاجع ، ونحن هنا يغدا علينا ويراح برزقنا من الجنة . قلت : فما الذي بلغكم هذا قال : الصبر الصالح وكثرة التلاوة لكتاب الله عز وجل . وخرج أبو نعيم بإسناد له عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول في موعظة له طويلة يذكر فيها أهل القبور : أليسوا في مدلهمة ظلماء أليس الليل والنهار سواء ؟
442- قال أبو الحسن بن البراء أنشدنا إسماعيل بن إدريس السمار لأبي العتاهية يبكي على نفسه في مرثية .
لأبكينَّ على نفسي وحق ليه يا عين لا تبخلي عني بعبرتيه
لأبكين لفقدان الشباب فقد جد الرحيل عن الدنيا برحلتيه
يا نأي منتجعي يا هول مطلعي يا ضيق مضطجعي يا بعد شقنيه
المال ما كان قدامي لآخرتي مالاً أقدم من مالي فليس ليه
فصل
443- وقد روى ابن أبي الدنيا من طريق أبي غطفان المري قال : قال عمر : يا رسول الله لو فزعتنا أحياناً لفزعنا فكيف بظلمة القبر وضيقه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما يبعث العبد على ما قبض عليه " وهذا مرسل .
444- وبإسناده عن وهب بن منبه . قال : كان عيسى عليه السلام واقفاً على قبر ومعه الحواريون وصاحبه يدلى فيه فذكروا القبر ووحشته وضيقه وظلمته قال عيسى عليه السلام : قد كنتم في أضيق منه أرحام أمهاتكم فإذا أحب الله أن يوسع وسع .
445- وبإسناده عن جعفر بن سليمان قال : شهد رجل يدلى في حفرتة فقال : إن الذي يسهل على الجنين في بطن أمه قادر أن يسهل عليك ، قال : وقال بعضهم : شبل ابن عورة هو المتكلم بهذا .
446- وخرج الإمام أحمد حديث الأسود الذي كان ينظف المسجد فمات فدفن ليلاً فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر فقال : " انطلقوا إلى قبره " فانطلقوا فقال إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة وإن الله عز وجل ينورها بصلاة عليها فأتى القبر ، فصلى عليه .
وخرج مسلم نحوه من حديث أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن قد قيل : إن آخره مدرج في حديث أبي هريرة .
447- وروى محمد بن حميد الرازي ثنا مهران بن [ أبى ] عمر ثنا سفيان عن علقمة ابن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر حديث عهد بدفن ومعه أبو بكر وعمر فقال : قبر من هذا ؟ قال أبو بكر : هذه يا رسو الله أم محجن كانت مولعة بأن تلتقط الأذى من المسجد قال : ألا آذنتموني قالوا : قد كنت نائما فكرهنا أن نجهدك ، قال : فلا تفعلوا فإن صلاتي على موتاكم تنور لهم في قبورهم . قال: فصف بأصحابه فصلى .
448- وقد ذكرنا فيما تقدم عن أبى قلابه أنه راى ميتا في نومه فقال له : جزى أهل الدنيا خيرا أقرأهم منا السلام فإنه يدخل علينا من دعائهم نور مثل الجبل .
449- وقال ابن أبى الدنيا حدثنا أبو عبد الله بن يحير حدثني بعض أصحابنا قال : رأيت أخا لي في النوم بعد موته فقلت : أيصل إليكم دعاء الأحياء قال: أي والله يترفرف مثل النور ثم يلبسها .
450- وروى بإسناده عن بشار بن غالب البحراني قال : رأيت رابعة العدوية في منامي وكنت كثير الدعاء لها فقالت لي : يا بشار بن غالب هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل الحرير ، قالت : هكذا دعاء المؤمنين الأحياء إذا دعوا للموتى فستجيب لهم جعل ذلك على أطباق النور وخمر بمناديل الحرير ، ثم أتى به إلى الذي دعا له من الموتى فقيل : هذه هدية فلان إليك .
451- وبإسناده عن عمرو بن جرير قال : إذا دعا العبد لأخيه الميت أتاه ملك في قبره فقال له : يا صاحب القبر الغريب هدية من أخ شفيق عليك . وبإسناده عن بشر بن منصور قال : كان رجل يختلف إلى الجبان زمن الطاعون فيشهد الصلاة على الجنائز فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال : آنس الله وحشتكم ورحم الله غربتكم وتجاوز عن سيئاتكم وقبل الله حسناتكم . لا يزيد على هذه الكلمات قال : فإذا أمسيت ذات ليلة فانصرفت إلى أهلي ولم آت المقابر فدعو كما كنت أدعو قال : فبينما أنا نائم إذا أنا بخلق كثير قد جاؤني فقلت لهم : ما جاء بكم ؟ قالوا نحن أهل المقابر . قلت : وما تريدون ؟ قال : إنك كنت عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك قلت : وما هي ؟ قال: الدعوات التي كنت تدعو بها . قال : فقلت : إني أعود لذلك فما تركتها بعد .
452- وبإسناده عن سفيان بن عينية قال : كان يقال : الأموات أحوج إلى الدعاء من الأحياء إلى الطعام .
453- وبإسناد له عن بعض المتقدمين قال : مررت بالمقابر فترحمت عليهم فهتف هاتف : نعم فترحم عليهم فإن فيهم المهموم والمحزون .
454- وروى جعفر الخلدي عن العباس بن يعقوب بن صالح الأبياري سمعت أبى يقول : رأى بعض الصالحين أباه في النوم فقال : يا بني لم قطعتم هديتكم عنا قال : يا أبت وهل تعرف الأموات هدية الأحياء ؟ قال : يا بني لولا الأحياء هلكت الأموات ، نسأل الله العفو والغفران .
الباب الحادي عشر
في ذكر زيارة الموتى والاتعاظ بهم
455-وخرج مسلم في صحيحه من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ] فإنها تذكركم الآخرة[ ".
456- وخرجه الإمام احمد بلفظ آخر : " فزوروها فإن في زيارتها عبرة وعظة ".
457- وخرجه أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة " .
457- وخرج الإمام أحمد من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نهيتكم عن زيارة القبور ، ثم بدا لي أنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة فزوروها ولا تقولوا هجراً " .
458- وخرج مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي فزوروها فإنها تذكر الموت " .
469- وخرج الحاكم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من زار القبور تذكر بها الآخرة ، وغسل الموتى فإن معالجة جسد الميت وعظة بليغة، وصل على الجنائز ؛ لعل ذلك يحزنك ، فإن الحزين في ظل الله تعالى يتعرض كل خير " .
460- وخرج ابن أبي الدنيا بإسناده عن ثابت البناني قال بينما أنا أمشي في المقابر إذ أنا بهاتف من واد : يا ثابت لا يغرنك سكوتها فكم من مغموم فيها قال : فلتفت فلم أجد أحداً .
461- وبإسناد عن بشر بن منصور قال : قال لي عطاء الأزرق : إذ حضرت المقابر فليكن قلبك فيمن أنت بين ظهرانيه فإني بينما أنا نائم ذات ليلة في المقابر تفكرت في شيء فإذا أنا بصوت يقول : إليك يا غافل إنما أنت بين ناعم في نعمته يتذلل أو معذب في سكراته يتقلب .
462- وبإسناده عن صالح المري قال : دخلت المقابر [ يوماً ] في شدة الحر فنظرت إلى القبور خامدة كأنهم قوم سموت فقلت : [ يا ] سبحان الله من يجمع بين أرواحكم وأجسادكم بعد افتراقها يحيكم وينشركم من بعد طول البلى قال فنادني مناد من بين تلك الحفر : يا صالح { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } قال : وسقط والله لوجهي جزعاً من ذلك الصوت .
463- وبإسناد له أن عمر بن عبد العزيز خرج مع جنازة فلما دفنها ]قال : دعوني حتى آتي قبور الأحبة قال : فأتاهم فجعل يدعوا ويبكي إذ هتف به التراب: يا عمر لا تسألني عما فعلت بلأحبة وما فعلت بهم ؟ قال : مزقت الأكفان واكلت اللحم ، شدخت المقتلين ، وأكلت الحدقتين ، ونزعت الكفين من الساعدين ، والساعدين من العضلين والعضلين من المنكبين ، والمنكبين من الصلب ، والقدمين من الساقين ، والساقين من الفخذين ، والفخذين من الورك ، والورك من الصلب ، قال : وعمر يبكي فلا أراد أن ينهض قال له التراب : يا عمر ألا أدلك على أكفان لا تبلى ؟ قال : وما هي : تقوى الله والعمل الصالح .
464- وبإسناده أن أبا الدرداء مر بين القبور فقال : يا تراب ما أسكن ظواهرك ، وفي داخلك الدواهي .
465- وبإسناده له عن ميمون بن مهران قال : خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقابر فلما نظر إلى القبور بكى ثم قال يا أيوب هذه قبور أبائي بني أمية ، كأنهم لم يشركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشتهم ، أما تراهم صرعي فدخلت بهم المثلات ، واستجكم فيهم البلاء ، فأصابت الهوان في أبدانهم مقيلاً ، ثم بكى حتى غشي عليه ثم أفاق فقال : فانطلق بنا فوالله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله عز وجل .
466- عن ثابت البناني أنه دخل المقابر فبكى فقال : بليت أجسامهم وبقيت أخبارهم فالعهد قريب ، واللقاء بعيد . وعن بعض الأعراف أنه وقف على قبر وأنشد في المعنى :
لكل أناس مقبر بفنائهم فهم ينقصون القبور تزيد
وما إن ترى داراً لحي قد أقفرت وقبر لميتة بالفناء جديد
فهم جيرة الأحياء أما محلهم فدان وأما الملتقى فبعيد
وعن بعضهم أنه مر في سفره بمقبرة لبعض المدن فقال :
كفى حزناً أن لا ببلدة من الأرض إلا دون مدخلها قبر
467- وعن جعفر بن سليمان قال : كنا نخرج مع مالك بن دينار زمان الحطمة فنجمع الموتى ونجهزهم فيخرج مالك على حمار قصير لجامه من ليف وعليه عباءة مرتديها فيعظنا في الطريق حتى إذا أشرف على القبور قال بصوت له محزون رحمة الله عليه نفعنا الله بأقرب الخلق إليه :
إلا حي القبور ومن بهنه وجوه في التراب أجبنهنه
ولو أن القبور أجبن حياً إذاً لأجبتني إذا نصته
ولكن القبور صمتن عني فأنت تحسره من عند هنه .
قال حدثنا يحيى عن عبد الله بن جعفر بن سليمان امير البصرة فمر به رجل كان يعظ الناس فقال له عبد الله : عظني ببيت من الشعر فقال :
إذا ثوى في القبور ذو خطره فذره فيها ولا تنظر إلى خطره
فبكى عبد الله بن جعفر وكان ابن السماك يتمثل بهذا البيت ويزيد فيه بيتاً آخر :
أبرزه الموت من مساكنه ومن مقاصيره ومن حجره
468- قال ابن أبي الدنيا ثنا إسماعيل بن عبد الله العجلي قال : أنشدنا رجل ونحن بالمقابر :
ألا يا عسكر الأحياء هذا عسكر الموتى
أجابوا الدعوة الصغرى وهم ينتظرون الكبرى
يحثون على الزاد وما زاد سوى التقوى
يقولون لكم جدوا فهذا آخر الدنيا
479- قال : وحدثنا أبو الفضل بن جعفر ثنا غزوان بن عبد الرحمن بن غزوان قال : كنت جالساً مع أبي بالبصرة إذ أقبل شيخ على حمار في عنقه حبل ليف والشيخ حاف ، عليه صوف حتى وقف علينا فسلم على أبي فأحفى أبي بالمسلة به وقال : من أين أقبلت ؟ قال : فكرت في أهل هذا العسكر ليلاً فغدوت عليهم فقلت:
وعظتك أحداث صمت ، وبكل ساكنة حفت
وتكلمت عن أعظم ابتلاء وعن صور سهت
وأرتك قبرك في القور و أنت حي لم تمت .
ثم ولى غير بعيد ، ثم أقبل فقال : ولربما انصرفت الشمات فحل بالقوم الشمت فقلت : هذا الشيخ هو أبو العتاهية و الأبيات معروفة .
470- وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سلام بن صالح قال : فقد الحسن ذات يوم فلما أمسى قال له أصحابه : أين كنت ؟ قال : كنت اليوم عند إخوان لي إن نسيت ذكروني ، وإن غبت عنهم لم يغتابوني ، فقال له أصحابه : نعم الإخوان والله هؤلاء يا أبا سعيد دلنا عليهم قال : هؤلاء أهل القبور.
471- وبإسناده عن عبد الواحد بن زيد أن الحسن قال لأصحابه ، وهم في المقابر هم أهل محلة قد كفى من جلس إليهم الكلام وله في الجلوس إليهم الموعظة و الاعتبار .
472- وروى بإسناد منقطع أن علي بن أبي طالب قيل له : ما شأنك جاورت المقبرة ؟ قال إني أجدهم جيران صدق يكفون الألسن ويذكرون الآخرة .
473- وبإسناده عن عمارة المغربي قال : قال لي محمد بن واسع : ما أعجب إلى منزلك قلت ! وما يعجبك من منزلي وهو عند القبور ؟! قال : وما عليك يكفون الأذى ، ويذكرون الآخرة .
474- وبإسناده عن ميمون بن مهران قال : قال أبو الدرداء : إن لكم تعانينه الدارين لعبرة ، تزورونهم ولا يزورونكم ، وتنتقلون إليهم ولا ينتقلون إليكم يوشك أن تستفرغ هذه ما في هذه .
475- وبإسناده عن الحسن بن عثمان بن أبي العاص كان في جنازة فرأى قبراً خاسفاً فقال لرجل من أهله : يا فلان تعالى انظر إلى بيتك الذي هو بيتك قال : فقال : ما أرى في بيتي طعاماً ولا شراباً ولا ثياباً ، قال فإنه بيتك قال : صدقت ، قال : فرجع فقال : والله لأجعلن ما في بيتي هذا في بيتي ذاك ، قال الحسن : هو والله التشدد و الهلكة والله لتبصرن أو لتهلكن ، وفي رواية قال : أراه ضيقاً يابساً مظلماً ليس فيه طعام ولا شراب ولا زوجة وقد نزلت بيتاً فيه طعام وشراب وزوجة قال : قال : والله بيتك ، قال : وصدقت أما والله لو قد رجعت نقلت من ذلك إلى هذا.
476- وعن ابن شوذب قال : اطلعت امرأة إلى قبر فرأت اللحد فقالت لامرأة معها : ما هذا ؟ يعني اللحد ، قالت : هذا كندوج العمل ، قال : وكانت تعطيها الشيء وتقول : اذهبي فضعي هذا في كندوج العمل .
477- وعن الحسن أنه مر على مقبرة فقال : يا لهم من عسكر ما أسكتهم ، وكم فيهم من مكروب.
478- وعن الفضل الرقاشي أنه كان إذا ذكر زهد في الدنيا يقول : مررت بالمقابر فوقفت فناديت : يا أهل الشرف والغناء والتباهي ، يا أهل اللباس والنجدة والأمن والزجول و يا أهل المسئلة والحاجة والفاقة ويا أهل النسك والإخبات والإنابة والاجتهاد فما ردت على فرقة منهم ، ولعمري إن لم يكونوا أجابوا جواباً لقد أجابوا اعتباراً .
489- وعن مالك بن دينار قال : خرجت أنا وحسان بن أبي سنان نزور المقابر فلما أشرف عليها سبقته عبرته ، ثم أقبل عليّ فقال : يا يحيى هذه عساكر الموتى ينتظرون بها من بقي من الأحياء ثم يصاح بهم صيحة ، فإذا هم قيام ينظرون ، فوضع مالك يده على رأسه ، وجعل يبكي .
480- وعن عاصم الحيطي قال : كنت أمشي مع محمد بن واسع ، فأتينا المقابر، فدمعت عيناه ، ثم قال : يا عاصم لا يغرنك ما ترى من خمودهم ، فكأنهم وقد وثبوا من هذه الأجداث ، فمن بين مسرور ومهموم .
481- وعن ابن السماك قال : لا يغرنك سكوت هذه القبور فما أكثر المغمومين فيها ولا يغرنك آسفووها فما أشك بقاهم فيها .
482- وعن أبي حازم الأعرج أنه شهد جنازة فوقف على شفير القبر فجعل ينظر إليه ثم رفع رأسه فقال لبعض أصحابه : ما ترى قال : أرى حفرة يابسة وأرى جنادل ، قال أبو حازم : أما والله لتحمدنه إلى نفسك أو لتكونن معيشتك فيه معيشة ضنكاً فبكى بكاءاً شديداً .
483- وعن حسين الجعفي قال : أتى رجل قبراً محفوراً ، فاطلع في اللحد ، فبكى واشتد بكاؤه قال : أنت والله بيتي حقاً ، والله إن استطعت لأعمرنك .
484- وعن عطاء السلمي أنه كان إذا جن عليه الليل خرج ، فوقف على القبور ، ثم قال : يا أهل القبور متم فوا موتاه ثم بكى ثم قال : يا أهل القبور عاينتم ما علمتم فوا عملاه ثم يبكي فلا يزال كذلك حتى يصبح .
485- وعن علي بن أحمد قال : كان الأسود بن كلثوم يخرج إلى المقابر إذا هدأت العيون ، فيقول . يا أهل الغربة والتربة ، يا أهل الوحدة والبلى ، ثم يبكي حتى يكاد يطلع الفجر ، ثم يرجع إلى أهله .
486- وعن ثابت البناني قال : دخلت المقابر فقلت : يا أهل القبور ، فلم يجبني أحد ، ثم قلت : يا أهل القبور ، فلم يجبني أحد ، ثم أجاب عقلي : نحن مثلك كنا وأنت وكما نكون نحن تكون .
487- قال ابن أبي الدنيا وحدثنا إبراهيم بن سيار قال : قيل لبعض حكماء العرب ما أبلغ العظات ، قال : النظر إلى محلة الأموات ويروى نحو هذا الكلام عن عمر بإسناد ضعيف .
488- وكان العمري الزاهد يلازم المقابر ومعه كتاب لا يفارقه فقيل له في ذلك ، قال : ما شيء أوعظ من قبر ولا آنس من كتاب ولا أسلم من الوحدة .
490- وقال أبو محرز الطفاوي كفتك القبور مواعظ الأمم السالفة .
491- وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن محمد بن صالح التمار قال : كان صفوان بن سليم يأتي البقيع في الأيام ، فمر بي فاتبعته ذات يوم وقلت والله لأنظرن ما يصنع قال والله فرفع رأسه وجلس إلى قبر منها فلم يزل يبكى حتى رحمته قال : ظننت أنه قبر بعض أهله , قال فمر بي فأتبعته فقعد إلى جنب قبر غيره فقال مثل ذلك , قال : فذكرت ذلك لمحمد بن المنكدر وقلت : إني ظننته أنه قبر بعض أهله , وقال محمد : كلهم أهله وأخوان إنما هو رجل يحرك قلبه بذكر الأموات كلما عرضت له قسوة ، ثم جعل محمد بن المنكدر يمر بي فيأتي البقيع فسلمت عليه ذات يوم ، فقال : ما يقنعك موعظة صفوان ؟ قال : فظننت أنه انتفع بما ألقيت إليه منها .
492- وعن مطرف الهذلي قال : كانت عجوز متعبدة في عبد القيس فعوتبت في كثرة إتيانها ، فقالت : إن القلب القاسي إذا جف لم يلينه إلا رسوم البلى وإني لآتي القبور وكأني أنظر إليهم قد خرجوا من بين أطباقها ، وكأني أنظر إلى تلك الوجوه المعفرة , وإلى تلك الأجسام البالية المقفرة ,وإلى تلك الأكفان الدلسة فيا له من منظر.
493- ولأبى العتاهية :
إني سألت التراب : ما فعلت بعدي بجسد وقع فيه الدود متعفرة
فأجابني : صيرت ريحهم يؤذيك بعد روائح عطرة
وأكلت أجساداً منعمة كان النعيم يهزها نضرة
لم يبق غير جماجم عريت بيض تلوح أو أعظم نخرة
494- قال ابن أبي الدنيا ثنا محمد بن الحسين قال : قال أبو إسحاق : شهدت جنازة رجل من إخواني منذ خمسين سنة فلما دفن وسوي عليه التراب وتفرق الناس ، جلست إلى بعض تلك القبور ففكرت فيما كانوا فيه من الدنيا وانقطاع ذلك كله عنهم فأنشدت أقول :
سلام على أهل القبور الدوارس كأنهم لم يجلسوا في المجالس
ولم يشربوا من بارد الماء شربة ولم يأكلوا من بين رطب ويابس
ألا خبروني : أين قبر ذليلكم وقبر العزيز الباذخ المتمارس
وغلبتني عيناي فقمت وأنا محزون .
495- قال ابن أبي الدنيا وأنشد الرياشي رحمه الله تعالى أبياتاً خمسة فقال :
تهيج منازل الأموات وجدا ويحدث عن رؤيتها اكتئاب
منازل لا يجيب حين تدعو وعز عليك أنك لا تجاب
وكيف يجيب من تدعوه ميتاً تضمنت الجنادل والتراب
مقيم إلى أن يبعث الله خلقه لقاؤك لا يرجى وأنت قريب
تزيد بلى في كل يوم وليلة وتنسى كما تبلى وأنت حبيب
496- وروى أبو نعيم بإسناد له أن داود الطائي اجتاز على مقبرة وامرأة عند قبر تقول هذين البيتين فسمعها فكان ذلك سبب توبته يعني سبب انقطاعه عن الدنيا وأسبابها وانشغاله بالآخرة والاستعداد لها . وسمع بكر العابد امرأة عند قبر تقول:
واعمراه ليت شعري بأي خديك ] بدأ ] البلى وأي عينيك سالت قبل الأخرى ، فخر بكر مغشياً عليه . أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " ذكر الأموات " .
497- وروى في كتاب " الخائفين " عن محمد بن الحسين عن عبد الله بن موسى قال :كان الحسين بن صالح إذا صعد المنارة - يعني ليؤذن - أشرف على المقابر فإذا نظر إلي الشمس تمور على القبور صرخ حتى يسقط مغشياً عليه ، فيحمل وينزل به ، وشهد يوماً جنازة فلما قرب الميت ليدفن نظر إلى اللحد فارتاع عرقاً ، ثم مال ، فغشي عليه ، فحمل على سرير الميت ، فرد إلى منزله .
498- وذكر بإسناد عن عيسى بن يونس - وذكر الحسين بن صالح - فقال : قل ما كنت أجيء في وقت صلاة إلا رأيته مغشيا عليه ينظر إلى المقبرة فيصرخ ويغشى عليه .
499- وبإسناده عن عمر بن درهم القريعي دخل المقابر وهو معصوب العين وابنه يقوده فوطىء على قبر وقال يا بني أين أنا ؟ قال في الجبان يا أبتاه قال : هاه ثم خر ميتا فحمل إلى أهله من المقابر ميتا ، فغسل ، ثم رد إلى المقابر، فدفن .- وروى في كتاب " القبور" بإسناد له أن امرأة بالمدينة كانت تزهو فدخلت يوما المقابر ، فرأت جمجمة ، فصرخت ثم رجعت منيبة ، فدخل عليها نساؤها فقلن ما هذا ؟ فقالت : بكى قلبي لذكر الموت لما رأيت جماجم خوف القبور، ثم قالت : أخرجن من عندي فلا تأتين منكن امرأة إلا امرأة ترغب في خدمة الله عز وجل ثم أقبلت على العبادة حتى ماتت .
500- وبإسناده عن عيسى الخواص أن رجلا من الصدر الأول دخل المقابر ، فمر بجمجمة بادية من بعض القبور ، فحزن حزنا شديدا ، ثم واراها ، ثم التفت فلم ير إلا القبور ، فحدث نفسه فقال : لو كشفت عن بعضهم فسألته ما رأى قال فأتى في منامه فقيل له : لا تغتر بتشييد القبور من فوقهم ، فإن القوم بليت خدودهم في التراب فمن بين مسرور ينتظر ثواب الله عز وجل وبين مغموم آسفا على عقابه ، فإياك والغفله عما رأيت ، فاجتهد الرجل بعد ذلك اجتهادا شديدا حتى مات .
501- وبإسناده عن جعفر بن سليمان عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : رأى رجل جمجمة إنسان فحدث نفسه بشيء فخر ساجدا نادما مما حدث به نفسه فقيل له : ارفع رأسك فأنت أنت وأنا أنا .
502- وعن جعفر قال : سمعت أبا عمران الجوني يقول : نودي ارفع رأسك فإنك ابن آدم وأنا الله ، تتوب ، وأعود إليك ، فصلِّ .
503- خرج ابن ماجه والترمذي من حديث هانىء مولى عثمان قال : كان عثمان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته ، فقيل له : تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا ؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القبر أول منازل الاخرة فإن نجا منه فما بعده ايسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه " .
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت منظراً قطُّ إلا والقبر أفظع منه " .
504- وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث البراء بن عازب قال : بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مر بجماعة فقال علام اجتمع هؤلاء ؟ قيل : على قبر يحفرونه . قال : فبدى بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثى عليه قال : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع ، فبكى حتى بل الثرى من دموعه ثم أقبل إلينا فقال : " أي إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا " .
505- وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن قال : مات أخ لنا فلما وضع في القبر جاء صلة بن أشيم حتى أخذ بناحية الثوب ثم قال :
إن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا أخالك ناجياً
506- وبإسناده عن خالد بن هلال الوزان قال : قال عبد الله بن رواحة : لا يغرنك الحياة فقدم ، أحذر إن للقبر شأناً ، إن فيه لما يحاذر ذو اللب ، وإن كان ذا نهى أو معاناً ، إنني موقن يا بني عاجل قد لبسو في الأكفانا فإذا ما وضعت في ظلم إلى اللحد ولويت من مكاني مكاناً برجائي البشرى ونور وإلا لقيتني في القبر سقوه وهوانا .
507- وبإسناده عن حجاج الأسود قال : رأيت في منامي كأني دخلت المقابر فإذا أنا بأهل القبور في قبورهم ، وقد انشقت الارض عنهم ، منهم النائم على التراب ، ومنهم النائم على الريحان ، ومنهم كهيئت المبتسم في نومه ومنهم من قد أشرق لونه ومنهم حائل اللون ؛ رب لوشئت سويت بينهم في الكرامة ، فناداني مناد من ناحية القبور : يا حجاج هذه منازل الأعمال فاستيقظت من كلمته فزعا فبكيت لما رأيت ذلك في منامي .
508- وعن سلمه البصري قال : وقف رجل على قبر قد بني بناء حسنا ، فجعل يتعجب من حسنه ، فلما كان في ليلة أتاه آت في منامه فوقف عليه ، وإذا رجل قد انمحت آثار وجهه فقال شعرا :
أعجبك القبر وحسن البناء والجسم فيه قد حواه البلاء
فاسأل الأموات عن حالهم ينبأك عن ذا ك ذهاب الجلاء
قال : ثم ولا فاتبعته ، فدخل الجبان ، فأتى ذلك القبر ، فانساب فيه .
509- وعن سلمة البصري أيضا قال : رأيت مربع بن مسرور العابد في منامي ، وكان كثير الذكر لله ، كثير الذكر للموت ، طويل الإجتهاد ، قال : قلت: كيف رأيت موضعك ؟ فقال : ليس يعلم ما في القبور داخله إلا الإله وساكن الأجداث ، ثم ولى وتركني .
510- وبإسناده عن روح بن سلمه الوراق قال : رأيت إبراهيم المجملي في منامي فقلت : في أي الحالات أنت في الاخرة ؟ قال : فبكى ثم قال : ما أطول غموم الموتى في قبورهم . قلت : فأنت كيف حالك ؟ قال: خير حال مرت إلى رضا الله بفضله علي ومنته قال : وكان إبراهيم قد صام .
511- يقال له وسيم قال : حدثتني امرأة من أهلي عابدة ، وكانت أصيبت بابن لها فما ترقأ لها دمعة قالت فرأيته بعد الحول في منامي كأنه جالس في قبره في أكفانه ، وقد سقطت في حرفته ، فقلت : هذا ابني والله فدنوت منه كالفزعة من منظره فقلت : يا بني كيف ترى مكانك ؟ فقطب وجهه ثم قال شعرا :
أعجبك القبر وحسن البناء و الجسم فيه قد حواه البلاء
فاسأل الاموات عن حالهم ينبأك عن ذاك ذهاب الجلاء
ثم تمدد في قبره فنظرت الى خط أسود لبس ثم انزو ولا رسن وتطابق القبر قال : فاستيقظت والله وأنا وجلة مما رأيت .
512-وعن الفضل بن مهلهل أخي الفضل وكان من العابدين قال : كان جليس لنا حسن التخشع والعبادة ، يقال له المجيب وكان من أجمل الرجال فصلى حتى انقطع عن القيام ، وصام حتى أسود ، ثم مرض فمات ، وكان محمد بن المضر الحارثي له صديقا ومات محمد قبله قال : فرأيت محمداً في منامه بعد موت مجيب فقلت : ما فعل أخوك مجيب قال لحق بعمله فكيف وجهه ذاك الحسن قال : أبلاه والله التراب قال : وقلت : كيف وأنت تقول لحق بعمله ؟ قال : يا أخي علمت أن الأجساد في القبور تبلى وأن الأعمال في الآخرة تحيا قلت : يبلون حتى لايبقى منهم شيء ثم يجيؤن يوم القيامة ، إي والله يا أخي يبلون حتى يصيرون رفاتا ثم يحييون عند الصيحة كأسرع من اللهم وأنشد بعضهم :
ما حال من سكن الثرى ما حاله أمسى وقد رثت هناك حباله
أمسى ولا روح الحياة تصيبه أبدا ولا لطف الحبيب يناله
أمسى وقد درست محاسن وجهه وتفرقت في قبره أوصاله
واستدلت منه المجالس عبرة وتقسمت من بعده أمواله
مازالت الأيام تلعب بالفتى والمال يذهب صفوه وحلاله
513- وروى البراء بإسناده عن الفضيل بن عياض قال : رأيت رجلاً يبكي ، قلت : وما يبكيك ؟ قال : أبكاني كلامه قلت : ما هو ؟ قال : كنا وقوفاً في المقابر فأنشدوا :
أتيت القبور فسألناها أين المعظم والمحتقر
وأين المذل بسلطانه وأين القوي إذا ما قدر
ففاتوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك في ما مضى معتبر
تروح وتغدو وأبلاك الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
514- وقد روي عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار أنه قال : أتيت القبور فناديتها فذكر الأبيات الثلاثة ثم قال : فهتف بي هاتف ، تفانوا هناك فما من مخبر وبادوا جميعاً وباد الخبر فذكر الأبيات الثلاثة أيضاً .
515- وروى ابن البراء أيضاً بإسناده أن قبراً أصيبت عليه هذه الأبيات مكتوبة :
الموت أخرجني من دار مملكتي فالتراب مضجعي من بعد ترفي
لله عبد رأى قبري فأعبره وخاف من دهره رب التصاريف
استغفر الله من جرمي ومن حنقي وأسأل الله فوزي يوم توفيقي
هكذا مصير بني الدنيا وإن نعموا فيها وغرهم طول التساويف
وروى ابن أبي الدنيا بإسناد له أنه قرأ على قبر بشيراز :
ذهب الأحبة بعد طول تودد ونأى المزار فأسلموك وأتشعوا
خذلوك أفقر ما تكون بغربة لم يؤنسوك وكربك لم يدفعوا
قضى القضاء وصرت صاحب حفرة عند الأحبة عرضوا وتصدعوا
وبإسناد له قال قرىء على قبر بمقابر البصرة مكتوب :
يا غافل القلب عند ذكر المنيات عما قليل ستثوى بين أموات
فاذكر محلك قبل الحلول به وتب إلى الله من لهو وملذات
إن الحمام له وقت إلى أحد فاذكر مصائب أيام وساعات
لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها قد حان للموت ياذا اللب أن يأتي
وقرىء على قبر آخر :
ستعرض عن ذكري وتنسى مودتي ويحدث بعدي للخليل خليل
وقرىء على قبر آخر بالأيلة :
إذا ما نقصت يوماً من العيش مدتي فإن غناء الباكيات قليل
الموت بحر غالب موجه تضيق فيه حيلة السابح نفسي إلى قال ، فاسمع مقالة من خبير :
ما صاحب الإنسان في قبره مثل التقى والعمل الصالح
وقرىء على قبر :
بادر شبابك قبل وقت رحيله واعمل ليومك يا أخا الأشراف
وقرىء على قبر بالأيلة :
ليس للميت في قبره فطر ولا أضحى ولا عشر ، نأى على الأهل على قربه كذاك مصيري قرىء على قبر بالأيلة :
أنا البعيد القريب الدار منظره بين الجنادل والأحجار
وقرىء على قبر ببعض الفلوات :
رحمه الله من بكى لغريب فقد عفى غبر القبر فمحى الحسن والصفاء
وقرىء على قبر :
أنا في القبر وحيد قد تبرأ الأهل مني أسلموني لذنوبي ، خفت إن لم يعف عني
وقرىء على حائط مقبرة :
يا أيها الواقف بالقبور بين أناس غيب حضور
قد سكنوا في خرب مغمورين بين الثرى وجندل الصخر ينظرون صيحة النشور
ولا تك عن مصيرنا في غفلة غداً إلى منزلنا تصير
وفي كتاب " العجائب " ليشكر الحافظ :
قرىء على قبر بطبرستان مكتوب :
أما ترون محلي غداً تصيرون على أبلى التراب شبابي
وكلكم سواء سبيلكم كسبيلي سبيل من كان قبلي
ووجد على قبر مكتوب :
وقفت على الأحبة حين صفت قبورهم كأفراس الرهان
فلما أن بكيت وفاض دمعي رأت عيناي بينهم مكاني
وقرىء على قبر :
ولقد وقفت كما وقفت وقد نظرت فما اعتبرت
حصل لنفسك منزلاً قبل الحصول كما حصلت
وأوصى بعض الوزراء أن يكتب على قبره :
أيها المغرور في الدنيا بعز يقينه ، وبأهل وبمال وبقصر تبتنيه ، كم عليها قد سحبنا ذيل سلطان منيته ، يحسب الأقدار تجري بخلود ترتجيه ، إذا طواك الموت طياً فاعتبرنا نحن فيه .
516 - وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن الحسين حدثني أبو عمر الضمري حدثني عبد الله بن صدقة بن مرداس البكري عن أبيه عن شيخ حدثه بقرية من بلاد أنطابلس قال : كان ثلاثة إخوة : أمير يصحب السلطان ويؤمر على المدائن والجلوس ، وتاجر موسر مطاع من ناحيته ، وزاهد قد تخلى لنفسه وتخلى لعبادة ربه . قال : فحضرت العابد الوفاة فاجتمع عنده أخوانه فقال لهما إذا مت فغسلاني وكفناني وادفناني على نشز من الأرض واكتبا على قبري :
وكيف يلذ العيش من هو عالم بأن إله الخلق لا بد سائله
فيأخذ منه مظلمة لعباده ويجزيه بالخير الذي هو فاعله
فإذا أنتما فعلتما ذلك فأتياني كل يوم لعلكما أن تتعظا . قال : ففعلا ذلك ، فكان أخوه يركب في جنده حتى يقف على القبر فيقرأ ما على عليه ويبكي فلما كان اليوم الثالث وأراد أن ينصرف سمع هدة من داخل القبر ، كاد أن ينصدع لها قلبه، فانصرف مذعوراً فزعاً فلما كان من الليل رأى [ أخاه ] في منامه فقال له أي أخي ما الذي سمعت من قبرك ؟ قال تلك هدة المقمعة قيل لي رأيت : مظلوما ، فلم تنصره ، فأصبح مهموما فدعا أخاه وخاصته وقال : ما أرى أراد بما أوصى أن يكتب على قبره غيري ، وإني أشهدكم أن لا أقيم بين ظهرانيكم أبدا ، قال : فترك الإمارة ولزم الكتابة وكتب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك ، فكتب أن خلوه وما أراد ، فحضرته الوفاة وهو في جبل مع بعض الرعاه فبلغ أخاه فأتاه فقال له إذا مت فادفني إلى جنب أخي وأكتب على قبري :
وكيف يلذ العيش من كان موقنا بأن المنايــا بغتة ستعاجـله
فتسلبـــه ملكـا عظيمـا وتسكنه البيت الذي هو أهله
ثم تعاهدني ثلاثة بعد موتي ، وادعو الله لي لعل الله أن يرحمني ، ومات ففعل به أخوه ذلك فلما كان في اليوم الثالث وأراد أن ينصرف سمع وجبة في قبره كاد أن يذهل عقله ، فرجع حزينا قلقا . فلما كان في الليل إذا بأخيه في منامه قد أتاه قال . فقلت له : أي أخي أتيتنا زائرا قال : يا أخي هيهات بعد المزار فلا مزار ، وأطمأنت بنا الدار قلت : يا أخي كيف أنت ؟ قال : بخير ما أجمع التوبة لكل خير . قال : فكيف أخي ؟ قال : ذلك مع الأئمه الأبرار . قلت : وما أمرنا وراءكم . قال : من قدم شيئا وجده ؛ فاغتنم وجدك قبل نقلك ، فأصبح أخوه معتزلا ففرق ماله وقسمه وباعه ، وأقبل على طاعة ربه ، ونشأ له ابن كأهنأ الشباب وجها وجمالاً فأقبل على المكاسب والتجارة حتى بلغ منها الغاية ، وحضرت الوفاة أباه وقال له : إذا مت تذكر القبور والتفكر في أحوالهم .
الباب الثاني عشر
في استحباب تذكر القبور والتفكير في أحوالهم وذكر أحوال السلف في ذلك
517- خرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " استحيوا من الله حق الحياء قالوا : إنا نستحي والحمد لله , قال ليس ذلك ولكن الإستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى , وأن تحفظ البطن وما حوى , ولتذكر الموت والبلى , ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء " .
518- وخرج الطبراني نحوه من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه مسلم : أنه قال ذلك على المنبر والناس حوله وقال فيه " وليذكر القبور والبلى " , فما زال يردد ذلك عليهم حتى سمعهم يبكون حول المنبر ". وخرجه أيضاً بنحوه من حديث الحكم بن عمير عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ويروى نحوه من حديث الحسن مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم .
519- وخرج الترمذي والحاكم من من حديث أسماء بنت عميس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بئس العبد عبد تخيل واختال , ونسي الكثير المتعالي , بئس العبد عبد تجبر واعتداء ونسى الجبار الأعلى , بئس العبد عبد سهى ولهى ونسي المقابر والبلى , بئس العبد عبد عتى وطغى , ونسي المبتدىء والمنتهى , بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين , بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات , بئس العبد عبد طمع يقوده , بئس العبد عبد هوى يضله , وبئس العبد عبد رغب يذله " .
وخرج الطبراني من حديث نعيم بن همار الغطفاني نحوه .
520- وخرج ابن أبى الدنيا بإسناد عن الضحاك قال : قال رجل يا رسول الله من أزهد الناس ؟ قال : "من لم ينس القبر والبلى , وترك فضل الدنيا [ الدنية ] وآثر ما يبقى على ما يفنى , ولم يعد غداً من أيامه , وعد نفسه من أهل القبور " .
521-وخرج الترمذي من حديث ابن عمر قال : " أخذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل, ]وعد نفسك من أهل [ ". وخرج البخاري أوله.
522- وروى ابن أبي الدنيا بإسناد عن أبي سريج الشامي قال : قال عمر بن عبد العزيز لرجل من جلسائه : يا فلان قد أرقت الليل متفكراً , قال : فيما يا أمير المؤمنين ؟ قال في القبر وساكنه , لو رأيت بعد ثالثه في القبر لاستوحشت من قربه بعد طوال الأنس منك بناحيته , ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام , ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان مع تغير الرائحة وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الرائحة ونقاء الثوب قال : ثم شهق شهقة خر مغشياً .
523- وعن محمد بن كعب القرظي قال : بعثت إلى عمر بن عبد العزيز فقدمت إليه فأدمت النظر إليه فقال : يا ابن كعب إنك لتنظر إلي نظراً ماكنت تنظره إليَّ بالمدينة قلت : أجل يا أمير المؤمنين , يعجبني ما حال من لونك وما حال من جسمك قال : فكيف بك يا ابن كعب لو رأيتني بعد ثالثة في القبر , وقد ثبتت عيناي على وجنتي , وخرج الصديد والدود من منخري , لكنت لي أشد نكرة .
524- وعن وهب بن الورد قال : بلغنا أن رجلاً فقيهاً دخل على عمر بن عبد العزيز فقال : سبحان الله ,كأنه تعجب من أمره الذي هو عليه , وقال له : تغيرت بعدنا ! فقال له : وبينت ذلك فعلاً ، فقال له : الأمر أعظم من ذلك , فقال له : يافلان فكيف لو رأيتني بعد ثلاث , وقد أدخلت قبري ، وقد خرجت الحدقتان فسالت على الخدين وتقلصت الشفتان عن الأسنان , وانفتح الفم , ونتأ البطن فعلا الصدر , وخرج الصديد من الدبر .
525- وعن شبية ابن أبي حمزة قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض مدائن الشام : أما بعد فكم للتراب في جسد ابن آدم من مأكل , وكم للدود فيه من طريق مخترق , وإني أحذركم ونفسي - أيها الناس - العرض على عز وجل .
526- وروى أبو نعيم الحافظ بإسناده أن عمر بن عبد العزيز شيع مرة جنازة من أهله , ثم أقبل على أصحابه ووعظهم , فذكر الدنيا فذمها وذكر أهلها , وتنعمهم فيها , وما صاروا إليه بعدها من القبور , فكان من كلامه أنه قال : إذا مررت بهم فنادهم إن كنت مناديا , وادعهم إن كنت داعياً ومر بعسكرهم , وانظر إلى تقارب منازلهم , سل غنيهم : ما بقي من غناه ؟ وسل فقيرهم : ما بقي من فقره ؟ واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون ، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون ، وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنع بها الديدان تحت الأكفان ، وأكلت اللحان وعفرت الوجوه ، ومحت المحاسن ، وكسرت الفقارة ، وبانت الأعضاء ، ومزقت الأشلاء ، وأين حجابهم وقبابهم ؟ وأين خدمهم وعبيدهم وجمعهم وكنوزهم [ وكأنهم ] ما وطئوا فراشاًولا وضعوا هنا متكأ ، ولا غرسوا شجراً ولا أنزلوهم من اللحد قراراً ، أليسوا في منازل الخلوات؟
أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء ، قد حيل بينهم وبين العمل ، وفارقوا الأحبة ، وكم من ناعم وناعمة أضحوا ووجوههم بالية ، وأجسادهم من أعناقهم بائنة ، أو وصالهم ممزقة ، وقد سالت الحدق على الوجنات ، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً ، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ، ففرقت أعضاءهم ، ثم لم يلبثوا إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً ، فقد فارقوا الحدائق وصاروا بعد السعة إلى المضائق ، قد تزوجت نساءهم ، وترددت في الطرق أبناؤهم ، وتوزعت القرابات ديارهم وقراهم ، فمنهم والله الموسع له في قبره الغض الناظر فيه المتنعم بلذته ، يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد ؟ وأين ثمارك الينعة ؟ وأين رقاق ثيابك وأين طيبك ونحورك ، وأين كسوتك لصيفك ولشتاءك ؟؟ أما رأيته قد زل به الأمر ، فلما يدفع عن نفسه دخلاً وهو يرشح عرقاً ويتلمظ عطشاً ، يتقلب في سكرات الموت وغمراته ، جاء الأمر من السماء ، وجاء غالب القدر والقضاء ، هيهات : يا مغمض الوالد والأخ والولد ، وغاسله ، يا مكفن الميت ويا مدخله في القبر ، وراجعاً عنه ، ليت شعري بأي خديك بدأ البلى يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت ، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا وما يأتيني به من رسالة ربي .
ثم انصرف فما عاش بعد ذلك إلا جمعة .
527- وقد روي عنه من وجوه متعددة أنه قال في آخر خطبة خطبها - رحمة الله عليه - " ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين ، ثم يرمها بعدكم الباقون كذلك حتى يرد إلى خير الوارثين ، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً قد قضى نحبه فتودعونه ، وتدعونه في صدع من الأرض غير ممهد ولا موسد ، قد فارقه الأحباب وخلع الأسباب وسكن التراب ، وواجه الحساب ، غنياً عما خلف ، فقيراً إلى ما قدم .
وكان ينشد هذه الأبيات :
من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار يخالف الشين والشعثا
و يألف الظل كي تبقى بشاشته فكيف يسكن يوماً راغماً جدثاً
في ظل مقفرة غبراء مظلمة يطيل تحت الثرا في غمه اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
528- وروى ابن أبي الدنيا أن محمد بن واسع دخل على بلال بن أبي بردة فسأله عن القدر فقال له : جيرانك من أهل القبور فكر فيهم فإن فيهم شغلاً عن القدر .
529- وعن مغيث الأسود الزاهد قال : زوروا القبور كل يوم تفكركم .
530- وقال النصر بن المنذر لإخوانه : زوروا الآخرة بقلوبكم ، وشاهدوا الموقف بتوهمكم ، وتوسدوا القبور بقلوبكم ، واعلموا أن ذلك كائن لا محالة ، فاختار لنفسه [ امرؤ ] ما أحب من المنافع والضرر .
531- وقال أحمد بن أبي الحواري : سمعت مضر بن عيسى يقول : رحم الله قوماً زاروا إخوانهم بقلوبهم في قبورهم وهم قيام في ديارهم ، يشيرون إلى زيارتهم بالفكر في أحوالهم .
532- وعن عبد الله بن المبارك : مر برجل راهب عند مقبرة ومزبلة ، فناداه . فقال : يا راهب إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر : كنز الأموال وكنز الرجال .
533- وقال ابن أبي الدنيا : ثنا محمد الصبغي قال : انتفض غنام بن علي يوماً وهو مع أصحابه فقال له بعضهم : ما الذي أصابك ؟ قال : ذكرت اللحد .
534- قال : وحدثنا محمد بن أحمد قال : قال هشام الدستوائي : ربما ذكرت الميت إذا كفن في أكفانه فأعظ نفسي .
535- ومما يروى لابن المبارك :
إن الذي دفن الأباعد و الأقربين صاعداً فصاعداً
عساك يوماً تذكر الملاحدا يا من يرمي أن يكون خالدا
شربت فاعلمه حديداً بارداً لا بد تلقى طيباً و زائداً
536- قال ابن أبي الدنيا : أنشدني الحسين بن عبد الرحمن :
لبيك لأهوال القيامة من بكى و لا تنسين القبر يوما و لا البلى
كفى حزناً يوماً ترى فيه مكرما كرامته أن يرتدوا جسمه الثرى
الباب الثالث عشر
في ذكر كلمات منتخبة من كلام السلف الصالح في الاتعاظ بالقبور ، وما ورد عنهم من ذلك من منظوم ومنثور
537- قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير : كان أبو بكر الصديق يقول في خطبته : أين الوضاءة الحسنة وجوههم ، المعجبون بشبابهم ، الذين كانوا لا يعطون الغلبة في مواطن الحرب ، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان قد تضعضع بهم ، وصاروا في ظلمات القبور الوحا الوحا النجا النجا .
538- وروى ابن أبي الدنيا عن الحسن أنه مر به شاب ، وعليه بردة له حسنة فقال : ابن آدم معجب بشبابه ، معجب بجماله كأن القبر قد وارى بدنك وكأنك لاقيت عملك ، ويحك ذا وقلبك ، فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم .
539- وعن عبد الله بن العيزار قال : لابن آدم بيتان : بيت على ظهر الأرض ، و بيت في بطن الأرض فعمل للذي على ظهر الأرض فزخرفة وزينة ، وجعل فيها أبواباً للشمال ، وأبواباً للجنوب ، وصنع فيه ما يصلحه لشتائه وصيفه ، ثم عمد إلى الذي في بطن الأرض فأخر به ، فأتى عليه آت فقال : أرأيت هذا الذي أراك قد أصلحته ، كم تقيم فيه ؟ قال : لا أدري . قال فالذي قد أخربته كم تقيم فيه قال : فيه مقامي ، قال : تقر بهذا على نفسك وأنت رجل يعقل ؟!
540- وعن الحسن قال : يومان وليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهن قط : يوم تبيت مع أهل القبور ولم تبت ليلة قبلها ، وليلة صبيحتها يوم القيامة ويوم يأتيك البشير من الله تعالى ، إما بالجنة أو النار ، ويوم تعطى كتابك بيمينك وإما بشمالك .
541- وعن عمر بن ذر أنه كان يقول في مواعظه : لو علم أهل العافية ما تضمنته القبور من الأجساد البالية لجدوا واجتهدوا في أيامهم الخالية خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار .
542- وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال : القبر منزل بين الدنيا والآخرة ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر .
543-وعن الحسن قال : أوذنوا بالرحيل ، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون وقال رجل لبعض السلف : أوصني قال : عسكر الموتى ينتظرونك .
544- وكان أبو عمران الجوني يقول : لا يغرنكم من ربكم طول النسية ، وحسن الطلب ، فإن أخذه أليم شديد حتى تبقى وجوه أولياء الله بين أطباق التراب إنما هم محبوسون لبقية آجالكم حتى يبعثهم الله إلى جنته وثوابه .
545- وعن محمد بن واسع قال : كل يوم ينتقل منا إلى المقابر ثلاثة ، وكأنك بهذا الأمر قد عم أحزناً حتى يلحق منا ولنا .
546- شهد الحسن جنازة فاجتمع عليه الناس ، فقال : اعملوا لمثل هذا اليوم - رحمكم الله - فإنما هم إخوانكم يقدمونكم ، وأنتم بالأثر ، أيها المخلف بعد أخيه إنك الميت غداً ، والباقي بعدك ، والميت في أثرك أولاً بأول حتى توافوا جميعاً قد عمكم الموت واستويتم جميعاً في كربة وعصصة ، ثم تخليتم إلى القبور ، ثم تنتشرون جميعاً ثم تعرضون على ربكم عز وجل .
547- وقال صفوان بن عمرو : ذكروا النعيم فسموا أناساً ، فقال رجل : أنعم الناس أجساداً في التراب قد أميت ، وبقي ينتظر الثواب .
548- وقال مسروق : ما من بيت خير للمؤمن من لحده قد استراح من أمر الدنيا أو من عذاب الله.
549- وقال بشر بن الحارث : نعم المنزل القبر لمن أطاع الله .
550- وقال الفضل بن غسان : مر برجل بقبر محفور فقال : المقيل للمؤمن هذا
قال : ونظر رجل إلى القبور فقال : أصبح هؤلاء زاهدين فيما نحن فيه راغبون .
551- وعن عقبة البزار قال : رأى أعرابي جنازة فأقبل يقول : هنيئاً يا صاحبها فقلت : علام تهنئه ؟ قال : كيف لا أهنىء من يذهب به إلى حبس جواد كريم نزله عظيم ، عفوه جسيم ، قال كأني لم أسمع القول إلا تلك الساعة .
552- قال ابن أبي الدنيا ]ثنا ] أبو مالك البجلي عن أبي معاوية قال : ما لقيني مالك بن مغول إلا قال لي : لا تغرنك الحياة واحذر القبر إن للقبر شأناً .
553- قال : وحدثنا أحمد بن محمد الازدي ثنا خالد بن أحمد بن أسد قال : أخذت بيدي على جبلة يوماً فأتينا أبا العتاهية فوجدناه في الحرم فانتظرناه فلم يلبث أن جاء فدخل عليه إبراهيم بن مقاتل بن سهل وكان جميلاً فتأمله أبو العتاهية وقال متمثلاً :
يا حسان الوجوه سوف تموتون وتبلى الوجوه تحت التراب
فأقبل علي بن جبلة فقال :
أكتب يا مربي شبابه للتراب سوف يأكل البلى بعض الثياب
يا ذوي الوجوه الحسان المصونات وأجسامها الغضاض الرطاب
أكثروا من نعيمها أو أقلوا سوف تهدونها لعفر التراب
قد نعتك الأيام نعياً صحيحاً تفارق الإخوان والأصحاب
فقال أبوالعتاهية : قل يا حامد ، قلت : معك ومع أبي الحسن ، قال : نعم فقلت :
يا مقيمين رحلوا للذهاب أشفير القبور و حطوا الركاب
نعموا الأوجه الحسان فما صونكموها إلا بعفر التراب
و ألبسوا ناعم الثياب ففي الحفر تعرون من جميع الثياب
قد ترون الشباب كيف يموتون إذا استنضروا بماء الشباب
554- قال : وحدثني محمد بن خلف قال : سمعت أبي قال : رجعنا من ميت مع ابن السماك يقول :
تمر أقاربي جنبات قبري كأن أقاربي لا يعرفوني
وذووا الأموال يقتسمون مالي ولا يألون أن جحدوا ديوني
قد أخذوا سهامهم و عاشوا فبالله ما أسرع ما نسوني
555- قال : وأنشدني أبو جعفر القرشي :
تناجيك أجداث وهن سكوت وساكنها تحت التراب خفوت
يا جامع الدنيا لغير بلاغة لمن تجمع الدنيا وأنت تموت
556- قال : وأنشدني الثقفي من قوله :
أما ترى الموت ما ينفك مختطفاً من كل ناحية نفساً ينجو بها
قد يعضت أملاً كانت تؤمله وقام في الحي ناعيها وباكيها
وأسكنوا الترب تبلى فيه أعظمهم بعد النضارة ثم الله يحييها
وصار ما جمعوا فيها وما ادخروا بين الأقارب يحويه أدابيها
فاختر لنفسك من أيام مدتها واستغفر الله لما أسلفته فيها
557- ولما انصرف الناس من جنازة داود الطائي رحمه الله أنشد السماك رحمه الله .
انصرف الناس إلى دورهم وغودر الميت في رمسه
مرتهن النفس بأعماله لا يرتجي الإطلاق من حبسه
لنفسه صالح أعماله و ما سواها فعلى نفسه
قف بالمقابر وانظر إن وقفت بها لله درك ماذا تستر الحفر
ففيهم لك يا مغرور موعظة وفيهم لك يا مغتر معتبر
558- قال أبو العتاهية :
رويدك يا ذا القصر في شرفاته فإنه عنه تسحب و تدعج
ولا بد من بيت انقطاع ووحشة وإن غرك البيت الأنيق المبهج
وقال بعضهم :
كم ببطن الأرض ثاو من وزير و أمير وصغير الشأن وعبد خامد الذكر حقير
شملت قبور القوم في يوم قصير و لم تعرف غنياً من فقير
تقدمين تزود قريباً من فعالك إنما قرين الغنى في القبر ما كان يفعل
إن كنت مشغولاً بشيء فلا يكن بغير الذي يرضى الله تشتغل
ما صاحب الإنسان من بعد موته إلى قبره إلا الذي كان يعمل
إنما الإنسان ضيف لأهله يقيم قليلاً عندهم ثم يرحل
تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه في خامس عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وثمان مائة على يد العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن محمد الشهير بابن القطعة الحنفي غفر الله له ولجميع المسلمين ، والحمد لله رب العالمين .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل